الأنامل الكادحة تعانق سعف النخيل بسحر الصناعة
«الخوص» مصدر أساسي لدخل الفقراء في القطيف
مازلت الأكف الخشنة التي تحمل فوقها قراءة واضحة لسنوات العمر الماضية بما يربو على السبعين عاما تعمل وتكدح بها، فقد تعلمت كيف يمكنها ان تستغل اناملها جيدا وتحتضن عطاء الأرض للانسان، ومنذ ان ابصرت هذه الهبات «مزارع النخيل والأرض من حولها» فهي معها في تناغم واضح ومستقيم، وبانسجام نجدها تمرر اناملها بين الخوض تعانقه بسحر باهر، لتصنع منه اشكالا مميزة وفريدة، قد يراها البعض جميلة على حين ينظر لها آخرون - خاصة من لم يعايش هذه البيئة - على انها عجيبة! لذا نجد بعض الزائرين هنا وهناك في مدينة القطيف الأم وبالتحديد في «سوق الخميس اكبر واعرق سوق بالمنطقة» يبحثون عن كافة المصنوعات من السعف والخوص والتي عملت فيها اليد الكادحة وصاغتها تلك الأنفاس العبقة برائحة الارض الرطبة وخضرة النخيل الندية، والتي آمنت بأن حياتها لا طعم لها بدون عمل تقوم به او حرفة تمتهنها، وهي في الحقيقية تجدها ضرورة اقتضتها ظروف البيئة لأهلها وحدتها للابتكار والتنوع في صناعتها وان كان لا مانع من ان تبدع في تصميماتها وترتقي فيها بحسها وثقافتها فتتأصل لديها عميقة تلتحم بالتراث.
ممارسة ضرورية
الخالة «ام عبدالله» امرأة يربو عمرها على «70 عاما» لاتزال اناملها الضعيفة المرتعشة تصنع الكثير وتنتج رغم ضعفها، تحدثنا عن سنواتها الماضية وكيف بدأت، فمنذ زمن بعيد تتعلم الفتاة اعمال كثيرة الى جانب عمل البيت وذلك لتقوم بمساعدة زوجها الكادح، تعينه في امر المعاش، والحياة صاغت لهم الكثير من امورها، فمنذ ان تبدأ الفتاة الفهم والفضول وحب المعرفة تراقب امها وجدتها وكل قريباتها يصنعن شيئا ما، حرفة او مهنة تلازمهن، اذ لا تبقى واحدة منهن بلا عمل تضيفه لنفسها، وكان نصيب «ام عبدالله» مشغولات الخوص فهي تصنع اشياء عديدة «كالحصيرة، والسفرة، والقفة، والزبيل او الزنبيل، والرفعة، والظرف، والخصفة او القاعودة، والمسقط، والسميم، والمراوح، والغدان، والمرحلة، والحصر، والقبعات الشمسية التي يهواها الأجانب بشدة» وغيرها الكثير من هبات النخلة التي تظلل واحة القطيف منذ آلاف السنين والتي يربو عددها على اكثر من مليوني نخلة.
أسعار رمزية
كانت اسعار مشغولات الخوص في السابق شبه رمزية فكانت قيمتها بما يمكن ان توفره لأسرتها من حفنة رز لغدائهم او بعضا من قطع اللحم او شيئا يمكنه ان يدفئهم ويسترهم، فالحياة تقسو عليهم وكلما زادت قسوتها زاد اطمئنانهم ورضاهم بعطاء الله، فكانت اسعار ما ينتجون تتراوح ما بين 2 و3 الى 5 و6 ريالات، اما الآن فقد قفزت الاسعار لتصل لـ«500 - 600 ريال» حسب النوع والحجم والتكلفة والطلب «كالسميم» وهو مشغول كبير المساحة وطويل فيجيء الطلب عليه من الدول الخارجية كـ«قطر والامارات»، كما يصنعون "المنصوف" وهو يشبه الحصير وهذا سعره يقارب «50 ريالا».
لا خوف من الاندثار
في حديث لنا مع «الخالة ام عبدالله» سألناها عن نسبة توقعاتها لاختفاء مثل هذه الحرف والصناعات مستقبلا، خاصة ان قلتها قياسا بالسابق هم من تم الحذف من قبل المديرة او النائبة الرجاء احترم الاخرينسونها، ففاجأتنا بأنها لا تتصور الأمر سيندثر، فطالما وجدت النخلة وجد من يستفيد منها، فالناس يرجعون للمشغولات القديمة وان اختلفت في كيفيتها، حتى انها لا يعتبرونها هواية تمارس، فمساحة حياتهم لا تسمح بالهوايات، فقد كانوا يعيشون اسرة ممتدة وعوائل كثيرة تحتاج للطعام واللباس تسد به مساحة الجوع وتروي به الظمأ وتكسو العري، والمرأة سابقا شأنها شأن المرأة اليوم امرأة عاملة وكادحة تصنع ما يمكنها لمساعدة الزوج في تحمل اعباء الحياة، خاصة مع شدة قسوة الحياة، ولم تكن هناك امرأة كما تقول «ام عبدالله» لا تعرف هذه الامور او تتقنها، وفي تفصيلها لشجرة النخيل التي يأخذون منها المادة الأولية لصناعتهم تقول: تنقسم النخلة الى 4 اجزاء هي الابيض او ما نعرفه نحن بـ«الجدب» وهذا يستخدم في صنع الحصير، ثم الصدر او «الحوافي» ويصنعون منه القفف وبعض الحصر، والجزء الثالث «الخضر» وهو اجزاء خضراء، واخيرا آخر الخضر وهو «السعف» نفسه الذي يصنعون منه حصرا قصيرة، هذه الاشيا يقتلعها الرجال ويحضرونها للنساء او يشترونها من السوق، والبعض الذي يمتلك مزرعة او حقلا للنخيل يأخذه منه مباشرة، كما كانوا يشترون الالوان التي يحتاجونها من العطار او «الحواج» والألوان منها «الكرمز» وهو الاحمر والاخضر، و«ورث» وهو اللون الاسود وكانوا يستخدمونه ايضا لصبغ ملابسهم اذ لم تتوافر لديهم المصبغة، او يشترونه ملونا ويعد الملون هو الاغلى سعرا ومازال.
اسماء واستعمالات
بعض الاشياء تتحول من اسم لاسم حسب مراحلها التي تمر بها، فيطلقون اسم «الظرف» على التمر وهو سلة كبيرة خاصة بحفظ التمر يضعون فيها التمر ويزنونه ومن ثم يخيطونه وبعد ان يفتح الظرف ليأكلوا منه التمر يتحول الى «قلة» مفتوحة اثناء وجود التمر، وبعد نفاذه تغسل القلة وتثنى لتتحول الى «خصفة» او قاعودة، وهذه تستخدم بمثابة الكرسي الارضي الذي يستخدم في اغراض متعددة كالتعلم في الكتاب.
اما بالنسبة للاسعار فهي مختلفة بحسب الزمن، والوقت المستغرق لصنعها فبعضها يصنع في «اسبوعين» وبعضها في يوم او يومين او ثلاثة بحسب النوعية والحجم والخياطة، ولايزال الناس يستخدمون مشغولات السعف كتراث في المناسبات والافراح لتقديم المكسرات وان كانت بشكل حديث، وفي الناصفة والقريقعان أو «الكريكشون» كارتباط بالتراث والمناسبات الدينية لايزالون يستخدمون القفف المصنوعة من السعف و«الخالة ام عبدالله» فلا يزال العمل في صناعة الخوص كمصدر اساسي للدخل.
أعرق الاسواق
كانت الخالة ام عبدالله تحمل بنفسها بضاعتها لتبيعها في «سوق الخميس» وهو اكبر واعرق سوق بالمنطقة، شأن مثيلاتها من نساء القطيف ومناطقها من «سيهات الى صفوى» ومن حولها ايضا فهي تذهب اليه ببضاعتها منذ الصباح الباكر وحتى وقت الظهر، والبيع يكون بحسب حال السوق واقبال الناس عليه، اما بالنسبة لها فلم تعد قادرة على صنع الاشياء التي تتطلب الكثير من الوقت والجهد «كالمرحلة والغدان» التي ماتزال مطلوبة حتى الآن وهي عبارة عن حصير طويل وعريض بما يشبه السجادة بعضهم يفرش عليه الشعير والتمر وخلافه، وكذلك «السميم» الذي يصنع بالطلب وهما تكون اسعارهما ما بين 500 - 600 ريال تقريباو وبسبب كبرها فهي تفضل صناعة الاشياء البسيطة التي لا تكلفها جهدا طويلا، كما انها تعمل فيها بمفردها، وتذكر لنا انهم يبيعون جماعات مع بعضهم بحكم ان الواحدة قد تحتاج للأخرى في المهنة، كما ان سوق الخميس يضم خامات وصناعات متعددة، وربما لا نجانب الصواب لو قلنا بأنه يحتفظ حتى الآن بثقافة خاصة وتراث هام للمنطقة يدركها الداخل اليه من اول زيارة.
مم تحياتي